الأربعاء، 4 نوفمبر 2015

تحصين النص المقدس


حجر الزاوية في الثقافات الغيبية التي تجند الأتباع وتستخدمهم كوقود لها، هو قدرة هذه الثقافات على اكتشاف المزيج المسحور الذي يحوي نسبة متوازنة من العقل والخرافة. العقل هو الطعم الذي يجذب الإنسان إلى الفخ، والخرافة هي السياج الذي يمنع القطيع من مغادرة الحظيرة الأيديولوجية وتعزيز إحساسهم بالإنتماء واستخدامهم في تجنيد الآخرين وَدفْعِ حياتهم طائعين مختارين وقوداً لها.

والتفكير هو أعدى أعداء الثقافات الغيبية ولا يمارس إلا كالعادة السرية - في الخفاء، مصحوباً بشعور مزمن بالخطيئة. وجرعة العقلانية في الثقافات الأيديولوجية عامة، والدينية منها بشكل خاص، والإسلام على وجه التحديد، هي جرعة بسيطة إن وجدت، ولا تعطى لأتباعها إلا على مضض، كما يعطى المصل، ليس حباً في الجراثيم ولكن حذراً من الإصابة بالمرض (التفكير).

وما إن يبتلع الإنسان البسيط هذا الطعم ويتبنى هذه الثقافة الغيبية حتى يتغير الخطاب الى ما يسمى خطاب التسليم والذي يرتكز الى منطق بدائي مفاده أن محاكمة نصوص الشريعة إلى العقل هو إساءة أدب مع الله، وأن ما لم تدركه بعقلك فالتسليم به واجب الخ ... وهذا المنطق لا يزال مستخدماً حتى يومنا هذا من قبل شيوخ الدين والدعاة وحتى من عامة الناس لاخماد جذوة التفكير، الباهتة ابتداءً، في ثقافة قامت أساساً على قمع التفكير وتشجيع التسليم.

وحيث أني لست في وارد مناقشة كل الثقافات الغيبية فإني سأكتفي بعرض الأساليب التي ينتهجها الدين الإسلامي لضمان تحصين النص وقمع التفكير، وسآتي بالأمثلة من الثقافة الإسلامية موقناً أن لا اختلافَ جوهرياً بين الديانات المختلفة في هذا الشأن، وسأكتفي بما يخدم الغرض ويوضح الفكرة ومن أراد الاستزادة ففي كتب السير والتاريخ المزيد.


التحذير من التفكير:

مثال ذلك حديث "تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في الله". وهذه من البداهات، فالإنسان يفكر فيما هو محسوس دون أن يحتاج إلى هذا الحديث، والتفكر في الكون يقود بالضرورة إلى التفكر في خالق الكون، وإذا لم يجد الإجابة عند الرسل فأين سيجدها؟


وأد التساؤلات في مهدها:

مثال ذلك "لاَ تَسْئَلُوا عَنْ أشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ" -- و"يأتي الشيطان أحدكم فيقول: من خلق كذا؟ من خلق كذا؟ حتى يقول: من خلق ربك؟ فإذا بلغه فليستعذ بالله ولينته - رواه البخاري ومسلم" والغرض من هذه النصوص هو كتم التساؤلات ما أمكن بدلاً من مواجهتها لأنه من المعلوم أن كل إجابة تفتح أبواباً جديدة للتساؤل. فإن قال قائل أن الله لا يريد أن يرهق عقل الإنسان بما لا يدرك فجوابه أن معظم ما هو من الغيبيات هو مما لايسهل إدراكه بالعقل، فمثلاً هل قصة الإسراء والمعراج هي مما يقبله العقل؟


تشجيع ثقافة التسليم:

قوله "وقالوا سمعنا وأطعنا" في معرض مدح المؤمنين وهو تكريس لثقافة السمع والطاعة على حساب ثقافة السؤال والتفكير والبرهان. وأوضح مثال على ذلك هو "أبوبكر الصديق"، فهذا الصحابي نال مكانته السابقة بتصديق كل ما قيل له من الوحي الى الإسراء والمعراج فما دونهما، ولذا أسبغ عليه الرسول لقب الصديق، وجعله أقرب مقربيه، وهذه ما يسمى بسياسة صنع النموذج بحيث يتنافس المتنافسون في محاكاة النموذج مما يفتح الباب على مصراعيه لتمرير الخرافات وتبرير السياسات في مجتمع يعاني أصلاً من الجهل وسيطرة الخرافة. وسيخرج علينا السادة المشايخ بكم هائل من الأحاديث في فضائل أبي بكر ومحبة الرسول له الخ.. وهذا مما يؤكد كلامنا ولا ينفيه أن من يصدق بدون نقاش ولا دليل يتبوأ المكانة العليا في أنظمة الخرافة.


الاجابة فقط على ما لايمكن التأكد منه:

يحاول الدين باستمرار توجيه مسار الأسئلة التي لم يفلح في قمعها الى الجوانب التي يتقن الإجابة عليها، أو الى مجالات لا يمكن بحال التأكد من صحة الإجابة من عدمها. خذ مثلاً هذا الحديث: "قال البيضاوي: عن ابن عباس سُئل النبي عن الرعد، فقال: ملَك موكل بالسحاب معه مخاريق من نار يسوق بها السحاب - تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي" فهذا مما لايمكن إثباته أو تفنيده بحسب علوم ذلك العصر، ولذا لم يجد الرسول غضاضة في أن يطلق العنان لخياله في الإجابة، أو أن يقتبس ما شاء من أساطير التوراة أو أساطير الفرس.

وأدنى تفكر في هذا النص يقودك بلا مواربة إلى أن قائل هذا النص لا يعلم شيئاً عن الغيب ولا الخلق ولا العلم ولا عن الكون، فضلاً عن أن يكون على اتصال بالخالق. وأجدر بالسادة المشايخ أن يتنصلوا من مثل هذه الأحاديث ولو صح إسنادها الى الرسول بدل أن يضعوا النص ضد العلم في مواجهة محسومة سلفاً.

ولكي تتمكن من فهم العقلية الدينية، ستجد أناساً يحملون شهادات دكتوراه في مجالات علمية يدافعون عن أمثال هذه الأساطير بل ويشطح بعضهم محاولاً إيجاد إعجاز علمي فيها.

ولكِ عزيزتي القارئة وعزيزي القارىء أن تقارن حديث الملك صاحب المخاريق النارية بإجابة الرسول عندما سُئِلَ عن عدد أهل الكهف، والتي كانت ترمي إلي مقارنة إجابته بما هو موجود في كتب اليهود، فهنا لم يعط الرسول إجابة محددة وإنما أنزل "قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل". وهذه إجابة لا تشفي غليلاُ ولا تروي عليلاً إذ لم يجادل أحد من اليهود ولا المسلمين في أن الله أعلم بعدتهم، ولهذا السبب بالتحديد سألوا الرسول ليأتي بالجواب الشافي من الله. ومن قبيل ذلك سؤاله عن الروح، وإجابته بأنها "من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً".


الإيمان بالشيء ونقيضه

وهو ما سماه الكاتب جورج أُروِل (Double Think) في رائعته (1984). فأي دين يخوض غمار الحياة اليومية لابد وأن يخلق كماً هائلاً من التناقضات ويضرب عرض الحائط بكثير من مبادئه وهذا، مالم يستدرك، سيصرف عنه أتباعه إن كان لهم أثارة من عقل. وهذا ما فعلته الثقافة الإسلامية تماماً فعقل الداعية المسلم لا يجد أي غضاضة في الاعتقاد بالشيء ونقيضه، فهو يؤمن بأن الإسلام كرم المرأة ويؤمن كذلك بحديث أن الصلاة تقطعها المرأة والحمار والكلب الأسود، كما يؤمن المسلم بأن الإسلام دين إعجازٍ علمي ويؤمن في ذات الوقت أن الذبابة تحمل داء في أحد جناحيها ودواء في الآخر، كما يؤمن بأنه "لا إكراه في الدين" ويؤمن أيضاً بأن المرتد يجب أن يقتل. والأمثلة أكثر من أن تحصى وخلاصة القول أن أي محاولة لإقناع المسلم بوجود المتناقضات في ثقافته لا تجدي فتيلاً لأن عقله مبرمج أساساً لقبول المتناقضات.


العداء للعلم والإستهزاء به

ليس أحب إلى سدنة الدين من أن تبقى الأمور في دائرة الغيبيات، مجال تخصصهم، على أن تنتقل إلى دائرة العلم حيث تقل بضاعتهم وتكسد. ولا تخطئك لهجة الشماتة الواضحة في كلامهم كلما تعثر أو فشل أي مشروع علمي يهدف الى استكناه الغيب. فعلى سبيل المثال، معرفة الإله لما في الأرحام كانت من الحقائق المفضلة عند مشايخ الدين، وعندما استطاع العلم معرفة نوع الجنين، تفتقت قريحتهم عن أن معرفة الإله لما في الأرحام لا تقتصر على معرفة جنس الجنين وإنما تمتد لمعرفة أشقي هو أم سعيد. وهذا يؤكد ما قلناه في النقطة الثالثة من أن الدين لا يتحدث إلا فيما لا يمكن التأكد منه.

وكل محاولة لاستشفاف الغيب هي مدانة مسبقاً من مشايخ الدين خشية كشف المستور. وبدون كثيرِ عناء، تستطيع أن تتنبأ برفض موقف رجال الدين من كل محاولة لاكتشاف المساحات التي اعتبرت سابقاً حرماً
مقدساً للآلهة، كما هـو الحال مـع أطفال الأنابيب وزرع الأعضاء والإستنساخ، وحديثاً ما يسمى بـ (Stem Cell Research). وكلما نجح العلم في رفع حجاب آخر من حجب الغيب مقلصاً مساحة سلطانه، التف رجال الدين بحركات بهلوانية وخرجوا علينا بعصا الإعجاز العلمي السحرية، مدعين معرفتهم بهذه الكشوفات منذ أربعة عشر قرناً، وهكذا فما بين ليلة وضحاها وجدنا أن القرآن تحدث عن الإنفجار العظيم (Big Bang Theory) والأجنة والهرمونات الخ.. ولا نستبعد أن التداوي ببول البعير هو المعجزة التالية التي لم يتح لها من علماء الغرب من يكتشفها بعد، والتي يوم أن تكتشف جنباً إلى جنب مع الدواء الكامن في جناح الذبابة سيدخل علماء الغرب في دين الله أفواجاً.


التعتيم الإعلامي الوقائي:

مثال ذلك: "وقد نُزِّلَ عَلَيكُم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يُكفرُ بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعاً" وفي هذه الآية أمر للأتباع بعدم الجلوس في مجلس يكفر فيه بآيات الله خشية على إيمان المؤمن أن يصيبه اضطراب من جراء الإستماع إلى ما يقال في مثل هذه المجالس. ويبدو هذا منطقياً لأول وهلة إلا أنه يحمل تناقضاته الداخلية حيث لا تنسجم هذه الآية مع آية "ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن" ومما هو معلوم أن أهل الكتاب لا يؤمنون برسالة محمد وأن مقتضى جدالهم الإستماع إلى ما يطرحونه من حجج والتي لا ريب تنصب على تكذيب نبوة محمد وإظهار التناقض في قرآنه وغير ذلك مما هو بالضرورة كفر بآيات الله، والأرجح أن هذا التضارب في النصوص يهدف كالعادة إلى خلط الأوراق بهدف إتاحة مجال التراجع عند تضاؤل الحجة، وكذلك للعب ورقة الناسخ والمنسوخ عند الحاجة.

ومما يؤيد الفكرة أيضاً لجوء النص إلى تهديد المؤمن بجمعه مع الكفار والمنافقين في جهنم إن هو استمع إليهم مجرد استماع، فهل هذا ما يدعي رجال الدين أنه تشجيع على التفكير والتدبر؟ أليس من الأولى تشجيع المؤمن على الاستزادة من العلم لمواجهة مثل هذه الشبهات اذا كان فعلاً ليس لديه ما يخشاه؟ وكيف يختلف هذا عن نعيه على الكفار قولهم "وَقَالَ الذينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآن وَالغَوْا فِيهِ لَعَلّكُمْ تَغْلِبُون". ألا يأمر القرآن أتباعه بفعل ما عابه على المشركين؟ ولا تملك إلا التبسم عندما تستمع أحد الدعاة وهو يتشدق بأن الكفار كان يهربون من سماع القرآن لقوة حجته، ثم يأمر بدوره أتباعه بعدم الإستماع إلى حجج الآخرين، وقديماً قيل:
لا تَنْهَ عَن خُلُقٍ وتَأتِي مِثْلَه... عَارٌ عَليكَ إذَا فَعَلْتَ عَظيمُ

مسلم القرن الواحد والعشرين، كمسلم القرن السابع، مصاب بشلل عقلي يزيد فداحة أو ينقص بمقدار الجرعات الدينية التي تشربها مع أول صرخة أذان في أذنه مروراً بأول "فلقة" من عصا الفقيه لأنه لم يحفظ "وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين" كما ينبغي له أن يحفظها، وليس انتهاءً بأول صفعة على وجهه وهو في العاشرة لكي يؤدي صلاته التي تنهى عن الفحشاء والمنكر.

لم يعد مسلمنا يملك إلا اجترار مجموعة حجج باهتة، موضوعة بعناية من قبل الكهنة لتقاوم ما استطاعت طوفان العلم، ويوماً بعد يوم، ينزوي المسلم في أزقة الحياة الخلفية ويراقب بحزن قطار العلم السريع وهو يدهس أصنام الخرافة ويتفطر قلبه لمرأى أمتّه تتراجع الى زوايا النسيان، ويدعو بحرقةٍ إلهاً وعده ذات يوم بالنصر والإستخلاف. إله ينصر كل أمم الأرض من نصاري ويهود وعباد بقر وملحدين، ويصمت صمتاً مريباً تجاه أستباحة خيرِ أمة أخرجت للناس، ولا يجد في جعبته ما يفسر هذا التناقض فيُنحي على نفسهِ باللائمة ويقول "فانتظروا، إني معكم من المنتظرين".

الكاتب: الحكيم الليبي
المصدر: شبكة اللادينيين العرب

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

لاخطاء اللغوية والإملائية في القرآن - جزء 1

أفلا يتدبرون القران ولو كان من عند غير الله  لوجدو فيه إختلافا كبيرا - سورة النساء    يعتقد معظم المسلمين أن في القرآن سمات رب...