الكاتب : كامل النجار
المصدر في الحوار المتمدن
تتسابق الأحزاب والجماعات الإسلامية في العالم العربي إلى إقامة دولة الخلافة التي يكون دستورها الكتاب والسُنة، اعتماداً على الآية التي تقول "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأؤلئك هم الكافرون" . ولكن هذا التوجيه لا يقتصر على الإسلام فقط، فالتوراة بها أحكام، كما يقول القرآن "إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استُحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس وأخشونِ ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأؤلئك هم الكافرون" (المائدة 44). والإنجيل كذلك به أحكام "وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأؤليك هم الفاسقون" (المائدة 47). ولكنا لا نرى أهل التوراة ولا أهل الإنجيل يطالبون في هذا العصر بأقامة دولة دينية يحكمها الله من فوق سبع سموات طباقاً، على العكس من المسلمين الذين يقولون إن الحاكمية لله والقانون الإلهي هو الذي يسري في الدنيا. ولكن المشكلة أن القرآن يحتوى بالكثير على حوالي مائتي آية فقط تتحدث عن بعض التشريعات مثل عقاب السرقة والزنا والطلاق والمواريث. بقية الأحكام الإسلامية كلها اجتهاد من الفقهاء الذين اخترعوا ما يُسمى بالقياس وبنوا عليه أحكامهم. والقياس كله تقريباً مبني على السنة القولية وقليل من السنة الفعلية. ولكن كتب السنة لا تعدو أن تكون كُتباً جمعها فرقاء متخاصمون على الحكم، كل فريق ألّف وجمع أحاديث يعارض بها الفريق الآخر. فمن النادر أن تجد حديثاً لا يناقضه حديث آخر. وسوف أعطي هنا بعض الأمثلة من كتب التراث لممارسات منعها نبي الإسلام ومارسها بنفسه، كما تقول كتب التراث. وهذا التناقض الواضح نجده في كل كتب الفقة، وبين المذاهب العديدة. وهذه الكتب هي التي يدعي الإسلاميون أنها أصل الدستور الإسلامي :
الحجامة
يعلم جميع المسلمين أن الحجامة والكي بالنار هما دعائم الطب النبوي،ففى صحيحِ البخارى عن سعيد بن جُبيرٍ، عن ابن عباس، عن النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم، قال: (الشِّفَاءُ فى ثلاثٍ: شُرْبَةِ عسلٍ، وشَرْطةِ مِحْجَمٍ، وكَيَّةِ نارٍ) (الطب النبوي لابن القيم، ص 39). ومع أن الحجامة تأخذ من المريض ولا تعطيه أكلاً ولا شراباً، جعلها الفقهاء من مفطرات الصوم. (فعن أبى الأشعث، عن شدادِ ابن أوس، أنه مَرَّ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم زمَنَ الفتح على رجل يحتجِمُ بالبقيع لثمان عشرة ليلة خلت من رمضان، وهو آخذ بيدى، فقال: أفْطَرَ الحَاجِمُ والْمَحْجومُ) (ابن القيم، زاد المعاد، ج3، ص 271). فالحجامةُ إذاً تفطر كما قال النبي، إذا صح الحديث.
ولكن البخاري يخبرنا في صحيحه أن النبي احتجم وهو صائم، ((جوازُ احتجامِ الصائم،ِ أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم (احْتَجَمَ وهو صائم)، ولم يفطر. وقد حاول الفقهاء تعليل ذلك بأن قالوا: الصوابُ: هو الفِطرُ بالحِجامة، لصحته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير معارضٍ، وأصحُّ ما يعارَضُ به حديثُ حِجَامته وهو صائم، ولكنْ لا يَدلُّ على عدم الفِطر إلا بعد أربعة أُمور. أحدها: أنَّ الصوم كان فرضاً. الثانى: أنه كان مقيماً. الثالث: أنه لم يكن به مرضٌ احتاج معه إلى الحِجَامة. الرابع: أنَّ هذا الحديث متأخرٌ عن قوله: (أفطَرَ الحاجِمُ والمحجُومُ)). (الطب النبوي لابن القيم، ص 48). فلا خلاف أن النبي، حسب الأحاديث، منع عن الحجامة للصائم ثم احتجم وهو صائم. ومحاولة الفقهاء في التبرير لا تُقنع أحداً لأن الشروط التي وضعوها شروط غير منطقية، فحسب قولهم لا يفطر الشخص المقيم بمكة وهو صائم في رمضان وليس به مرض يحتاج الحجامة، ولكن مع ذلك لا يبطل صيامه، ولكن الشخص المسافر وهو صائم صوماً تطوعياً رغم إباحة الشرع له بالفطر، وبه مرض يحتاج الحجامة، يبطل صيامه إذا احتجم. هل هناك أي منطق في هذه الشروط؟
ثم أن هناك إشكال في الأيام التي يجوز للمسلم أن يحتجم فيها والأيام التي أوصى بها الرسول، ( فقد نهى رسول الله عن الحجامة يوم الجمعة ويوم السبت ويوم الأحد ويوم الأربعاء، رواه ابن ماجه والحاكم من حديث ابن عمر، وروى أبو داود عن أبي بكرة أنه كان ينهي عن الحجامة يوم الثلاثاء) (الحاوي للفتاوي لجلال الدين السيوطي، ج1، ص 324). فإذاً الحجامة مذمومة يوم الجمعة والسبت والأحد والثلاثاء والأربعاء. فليس هناك غير الاثنين والخميس للحجامة. غير أن هناك حديثاً يقول "من احتجم يوم الخميس فمرض فيه مات فيه" (الجامع الصغير، حديث 8329). فلا يبقى من أيام الاسبوع للحجام ليكسب رزقه غير يوم الاثنين فقط. ولزيادة الطين بله، فهناك حديث آخر يوصي بالاحتجام يوم الثلاثاء بعد أن كان قد نهى عنها "من احتجم يوم الثلاثاء لسبع عشرة من الشهر كان دواءً لداء سنة" (الجامع الصغير، حرف الميم، حديث 8327).
وكذلك يؤكد السيوطي على الحجامة في أيام معلومة من الشهر،فيقول إن النبي قال (من احتجم لسبع عشرة من الشهر وتسع عشرة وإحدى وعشرين كان له شفاء من كل داء) (الجامع الصغير لجلال الدين السيوطي، حرف الميم، حديث 8326). فلا يمكن أن تصادف هذه الأيام الثلاثة يوم الخميس أو الاثنين من كل شهر. فالذي يريد الشفاء يحتجم في أي يوم من الاسبوع يصادف يوم 17، 19، 21 من أي شهر. فهذا تناقض واضح في الأحاديث
الكي
قد مررنا بالحديث الذي يقول (الشفاء في ثلاث: شُرْبَةِ عسلٍ، وشَرْطةِ مِحْجَمٍ، وكَيَّةِ نارٍ). فالكي بالنار علاج نبوي معروف. وزاد بعضهم في الحديث "وأنهى أمتي عن الكي" (الجامع الصفير، حديث 2752). ويقول السيوطي كذلك، قال النبي: أنهاكم عن الكي وأكره الحمم" والحمم هو الماء الشديد الحرارة. (الجامع الصغير، حرف الألف، حديث 4941). وعن عمران بن حُصين قال: نهى النبي (ص) عن الكي فاكتوينا فما أفلحن ولا أنجحن. (نهذيب سنن أبي داود، لابن القيم، باب في الكي، حديث 3860). فإذاً الكي، رغم فائدته المزعومة، منهي عنه في السنة.
ولكن عندما أصاب الصحابي سعد بن معاذ الأنصاري سهم في غزوة بني قريظة، كواه النبي شخصياً (لما رُمِى سعدُ بن معاذٍ فى أكْحَلِهِ حسَمَهُ النبىُّ صلى الله عليه وسلم، ثم ورِمَت، فحسَمهُ الثانية. و((الحَسْمُ)) هو: الكَىُّ. (الطب النبوي لابن القيم، ص 49). ويؤكد الطبري كذلك (عن الزهري عن أنس أن النبي كوى أسعد بن زرارة من الشوكة) (تاريخ الطبري، ج2، ص 9). وأسعد بن زرارة كان نقيب بني النجار.
البول في اتجاه القبلة
لا يختلف الفقهاء أن النبي نهى عن استقبال أو استدبار القبلة عند البول أو البراز، (روى أنه عليه السلام نهى عن استقبال القبلة، قال ابن القيم في "الهدى" ص 18 - ج 2: هذا الحديث عزاه الترمذي بعد تحسينه، وقال الترمذي في "كتاب العلل": سألت محمداً "يعني البخاري" عن هذا الحديث، فقال: هذا حديث صحيح، رواه غير واحد عن ابن إسحاق). وفي حديث معقل بن أبي معقل الأسدي: نهى رسول الله (ص) أن يستقبل القبلتين ببول أو غائط. رواه أحمد بن حنبل وأبو داود. (المجموع للإمام النووي، باب الاستطابة والاستنجاء والاستجمار).
ولكن محمد بن يحيي يقول عن عبد الله بن موسى، عن عيسى الحناط عن نافع عن ابن عمر قال: رأيت رسول الله (ص) في كنيفه مستقبلاً القبلة. قال عيسى: فقلت ذلك للشعبي فقال: صدق ابن عمر. (سنن ابن ماجة، ج1، كتاب الطهارة، حديث رقم 323). وعن حبان قال: لقد رقيت على ظهر بيتي فرأيت رسول الله (ص) قاعداً على لبنتين مستدبراً الكعبة، مستقبلاً بيت المقدس. (صحيح مسلم بشرح النووي، ج3، كتاب الطهارة، باب الاستطابة). وقد حاول بعض الفقهاء، خاصة مالك بن أنس، الالتفاف حول هذا التعارض بقوله إن استقبال القبلة يُمنع في الخلاء ويباح في البيوت، غير أن أبا أيوب الأنصاري، ومجاهد، وإبراهيم النخعي، وسفيان الثوري، وأبا ثور وأحمد بن حنبل يقولون: لا يجوز ذلك لا في الصحراء ولا في البنيان (أحكام النساء لابن الجوزي، ص 110). وعروة بن الزبير يقول يجوز استقبال القبلة في الخلاء وفي البنيان.
وقد نهى النبي عن البول قائماً كما يقول عمر بن الخطاب (وَحَديِثُ عُمَرَ إِنّما رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ أَبِي المُخَارِقِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ عُمَرَ قال: "رآنِي النّبِيّ صلى الله عليه وسلم (وَأَنا أَبولُ) قَائِماً، فَقَالَ: يَا عُمَرُ، لاَ تَبُلْ قَائِماً. فَمَا بُلْتُ قَائِماً بَعْدُ). وأكدت عائشة على ذلك بقولها (مَنْ حَدّثَكمُ أَنّ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَبُولُ قَائماً فَلاَ تُصَدّقُوهُ. مَا كَانَ يَبُولُ إلاّ قاَعِداً) (تحفة الأحوذي للمباكفوري، باب النهي عن البول قائماً). ولكن حذيفة بن اليمان يخبرنا أن النبي بال قائماً. اتفق على صحته) يعني اتفق عليه البخاري ومسلم.
دفن ما يُقطع من جسم الإنسان
قال مالك بن سليمان عن الهروي، قال حدثنا داود بن عبد الرحمن عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، قالت: كان رسول الله (ص) يأمر بدفن سبعة أشياء من الإنسان: الشعر، والظفر، والحيضة، والسن، والقلفة، والمشيمة. (الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، سورة البقرة، الآية 124).
ولكن البخاري يخبرنا أن النبي كان يوزع شعر رأسه على أصحابه الذين كانوا يقتتلون عليه وعلى ماء وضوئه (قال البخاري في صحيحه: وزعموا أن الذي حَلَقَ لِلنبي صلى الله عليه وسلم، معمر بن عبد اللَّه بن نضلة بن عوف... ، فقال للحلاق: ((خُذْ، وأَشَارَ إلى جَانِبِه الأَيْمَنِ، فَلما فَرَغَ مِنْه، قَسَمَ شَعْرَهُ بَيْنَ مَنْ يَلِيه، ثُمَّ أَشَارَ إلَى الحَلاَّق، فَحَلَقَ جَانِبهُ الأيْسَر، ثُّمَّ قالَ: هاهنا أبو طلحة؟ فدفعه إليه))، هكذا وقع في صحيح مسلم) (زاد المعاد لابن القيم، ج2، ص 156). فالنبي لم يدفن شعر رأسه بل قسّمه على أصحابه ليتبركوا به.
العدوى
روي عن النبي أنه قال (لا عدوى ولا طيرة) أي أن العدوى لا تنتقل من إنسان إلى آخر ولا من حيوان إلى حيوان آخر. فقال له الأعراب: إنّ النقبة – بداية الجرب _ تقع بمشفر البعير فيجرب لذلك كل الإبل في المراح. فلا بد أن تكون عدوى. فقال لهم النبي: فما أعدى الأول! ثم قال بعد ذلك (لا يورد ذو عاهة على مصح) أي لا يورد الجمل المريض على الأصحاء، أي أنه اعترف بالعدوى. (الطب النبوي لابن القيم، ص 121).
ثم لما جاء وفد ثقيف لمبايعة النبي، كَانَ فِيهم رَجُلٌ مَجْذُومٌ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ النَّبيُّ: "إِنَّا قَدْ بَايَعْنَاكَ فَارْجِعْ". وهذا يدل على خوف النبي من العدوى. ثم أضاف البخاري، تأكيداً للخوف من العدوى أن النبي قال "فر من المجذوم فرارك من الأسد". وقال القاضي ( قد اختلفت الآثار عن النَّبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في قصَّة المجذوم، فثبت عنه الحديثان المذكوران، وعن جابر: "أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَكَلَ مَعَ المَجْذُوْمِ، وَقَاَلَ لَهُ: "كُلْ، ثِقَةً بِاللهِ وَتَوَكُّلاً عَلَيْهِ") (صحيح مسلم بشرح النووي، ج4، كتاب السلام، باب اجتناب المجذوم). فهل نأكل مع المجذوم أم نفر منه فرارنا من الأسد؟
وهناك عدة أحاديث متناقضة عن منع النبي الناس من الشرب قائماً ثم شرب قائماً، ومنع الناس من التنفس في الإناء إذا شربوا، وكان يتنفس ثلاث مرات في الإناء. ونستطيع أن نقول إن كل حديث عن النبي له حديث مضاد له. وما ينطبق على أحاديث وأفعال النبي في هذه الأمثلة ينطبق على جميع الأحاديث الأخرى التي تتناول التشريع، مثل، "من بدل دينه فاقتلوه" أو "الولد للفراش وللعاهر الحجر". فإن لم نجد حديثاً معارضاً لها نجد آية من القرآن تقول بالعكس تماماً.
ومأساة المسلمين تكمن في الوعاظ الذين يخرجون عليهم بفتاوى وأحاديث تؤيد ما يقوم به الحاكم مهما كان ذلك العمل، فمثلاً عندما أنشأ وزير الداخلية السعودي مسابقة وجوائز لحفظ الحديث النبوي، خطب مفتي السعودية الشيخ آل الشيخ فقال (ان حفظ السنة النبوية من اسباب تعلمها والعمل بها وايضا سبب للتعرض لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم عن حفظ سنته بأن ينضره الله عز وجل حيث قال صلى الله عليه وسلم «نضّر الله امرءا سمع مقالتي فوعاها وحفظها وبلغها فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه»، مبينا ان حفظ السنة من أعظم المطالب وأسنى المراتب لما في ذلك من إعانة على حفظ الدين، وصيانة الشريعة) (الشرق الأوسط، 14 مارس 2008). ولكن كل أهل السنة يعرفون حديث أبي سعيد الخدري الذي يقول (قال رسول الله (ص) لا تكتبوا عني شيئاً غير القرآن ومن كتب شيئاً فليمحه) (أخرجه مسلم). فكيف ينهي النبي عن كتابة الحديث ثم يوصي بحفظه؟ وليس بعيداً عن الأذهان فتوى مفتي الديار السورية حديثاً عندما قال إن حضور اجتماع القمة العربية في دمشق فرض عين على كل الرؤساء والملوك العرب، وإن من تخلف عنها فقد ارتكب إثماً. وقد اعتمد الشيخ السعدون على أحاديث إجماع الأمة الإسلامية، التي لا تجتمع على ضلال.
وقد حاول الفقهاء وأهل الحديث عدة طرق للخروج من هذا التناقض في الشريعة المحمدية، فنجد مثلاً ابن تيمية يقول (ترك القول والعمل بموجب أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ظنا أن القول بموجبها مستلزم للطعن فيما خالفها، هذا الترك يجر إلى الضلال واللحوق بأهل الكتابين) (ابن تيمية، رفع الملام عن الأئمة الأعلام/ ص 31). فابن تيمية يرى أن تعارض الأحاديث لا يبطل العمل بها. أما ابن رشد القرطبي فيقول في تعارض الأحاديث (فذهب العلماء في هذين الحديثين ثلاثة مذاهب: أحدها مذهب الترجيح. والثاني مذهب الجمع. والثالث مذهب الإسقاط عند التعارض والرجوع إلى البراءة الأصلية إذا لم يعلم الناسخ من المنسوخ، فمن ذهب مذهب الترجيح قال بحديث ثوبان – الذي يقول أفطر الحاجم والمحجوم، وذلك أن هذا موجب حكما، وحديث ابن عباس – الذي يقول إن النبي احتجم وهو صائم _ رافعه، والموجب مرجح عند كثير من العلماء على الرافع لأن الحكم إذا ثبت بطريق يوجب العمل لم يرتفع إلا بطريق يوجب العمل برفعه، وحديث ثوبان قد وجب العمل به، وحديث ابن عباس يحتمل أن يكون ناسخا ويحتمل أن يكون منسوخا، وذلك شك والشك لا يوجب عملا ولا يرفع العلم الموجب للعمل) (ابن رشد، بداية المجتهد ونهائة المقتصد، ج1، ص 211). فكان لا بد لهم أن يدخلوا الناسخ والمنسوخ على الأحاديث كما أدخلوه على القرآن.
فهل يُعقل أن تبنى قوانين دولة على هذه السُنة التي يعارض بعضها البعض ولا يتفق فقهاؤها على أي حديث؟ أضف إلى ذلك تعارض آيات القرآن مع بعضها البعض ومع عدد كبير من الأحاديث؟ لا شك أن الدولة المدنية التي يصوغ الناس قوانينها بأنفسهم هي الحل والمخرج من هذا الارتباك والتعارض. وقد خطا جماعة "أهل القرآن" (إن كان للقرآن أهل) خطوة أولى في هذا الاتجاه الصحيح بأن جعلوا اعتمادهم على القرآن فقط وألغوا السنة القولية. والخطوة التالية يجب أن تكون وضع المصاحف في المساجد وجعل الدين علاقة فردية بين الشخص ومن يعبد.
المصدر في الحوار المتمدن
تتسابق الأحزاب والجماعات الإسلامية في العالم العربي إلى إقامة دولة الخلافة التي يكون دستورها الكتاب والسُنة، اعتماداً على الآية التي تقول "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأؤلئك هم الكافرون" . ولكن هذا التوجيه لا يقتصر على الإسلام فقط، فالتوراة بها أحكام، كما يقول القرآن "إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استُحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس وأخشونِ ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلا ومن لم يحكم بما أنزل الله فأؤلئك هم الكافرون" (المائدة 44). والإنجيل كذلك به أحكام "وليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه ومن لم يحكم بما أنزل الله فأؤليك هم الفاسقون" (المائدة 47). ولكنا لا نرى أهل التوراة ولا أهل الإنجيل يطالبون في هذا العصر بأقامة دولة دينية يحكمها الله من فوق سبع سموات طباقاً، على العكس من المسلمين الذين يقولون إن الحاكمية لله والقانون الإلهي هو الذي يسري في الدنيا. ولكن المشكلة أن القرآن يحتوى بالكثير على حوالي مائتي آية فقط تتحدث عن بعض التشريعات مثل عقاب السرقة والزنا والطلاق والمواريث. بقية الأحكام الإسلامية كلها اجتهاد من الفقهاء الذين اخترعوا ما يُسمى بالقياس وبنوا عليه أحكامهم. والقياس كله تقريباً مبني على السنة القولية وقليل من السنة الفعلية. ولكن كتب السنة لا تعدو أن تكون كُتباً جمعها فرقاء متخاصمون على الحكم، كل فريق ألّف وجمع أحاديث يعارض بها الفريق الآخر. فمن النادر أن تجد حديثاً لا يناقضه حديث آخر. وسوف أعطي هنا بعض الأمثلة من كتب التراث لممارسات منعها نبي الإسلام ومارسها بنفسه، كما تقول كتب التراث. وهذا التناقض الواضح نجده في كل كتب الفقة، وبين المذاهب العديدة. وهذه الكتب هي التي يدعي الإسلاميون أنها أصل الدستور الإسلامي :
الحجامة
يعلم جميع المسلمين أن الحجامة والكي بالنار هما دعائم الطب النبوي،ففى صحيحِ البخارى عن سعيد بن جُبيرٍ، عن ابن عباس، عن النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم، قال: (الشِّفَاءُ فى ثلاثٍ: شُرْبَةِ عسلٍ، وشَرْطةِ مِحْجَمٍ، وكَيَّةِ نارٍ) (الطب النبوي لابن القيم، ص 39). ومع أن الحجامة تأخذ من المريض ولا تعطيه أكلاً ولا شراباً، جعلها الفقهاء من مفطرات الصوم. (فعن أبى الأشعث، عن شدادِ ابن أوس، أنه مَرَّ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم زمَنَ الفتح على رجل يحتجِمُ بالبقيع لثمان عشرة ليلة خلت من رمضان، وهو آخذ بيدى، فقال: أفْطَرَ الحَاجِمُ والْمَحْجومُ) (ابن القيم، زاد المعاد، ج3، ص 271). فالحجامةُ إذاً تفطر كما قال النبي، إذا صح الحديث.
ولكن البخاري يخبرنا في صحيحه أن النبي احتجم وهو صائم، ((جوازُ احتجامِ الصائم،ِ أَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم (احْتَجَمَ وهو صائم)، ولم يفطر. وقد حاول الفقهاء تعليل ذلك بأن قالوا: الصوابُ: هو الفِطرُ بالحِجامة، لصحته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير معارضٍ، وأصحُّ ما يعارَضُ به حديثُ حِجَامته وهو صائم، ولكنْ لا يَدلُّ على عدم الفِطر إلا بعد أربعة أُمور. أحدها: أنَّ الصوم كان فرضاً. الثانى: أنه كان مقيماً. الثالث: أنه لم يكن به مرضٌ احتاج معه إلى الحِجَامة. الرابع: أنَّ هذا الحديث متأخرٌ عن قوله: (أفطَرَ الحاجِمُ والمحجُومُ)). (الطب النبوي لابن القيم، ص 48). فلا خلاف أن النبي، حسب الأحاديث، منع عن الحجامة للصائم ثم احتجم وهو صائم. ومحاولة الفقهاء في التبرير لا تُقنع أحداً لأن الشروط التي وضعوها شروط غير منطقية، فحسب قولهم لا يفطر الشخص المقيم بمكة وهو صائم في رمضان وليس به مرض يحتاج الحجامة، ولكن مع ذلك لا يبطل صيامه، ولكن الشخص المسافر وهو صائم صوماً تطوعياً رغم إباحة الشرع له بالفطر، وبه مرض يحتاج الحجامة، يبطل صيامه إذا احتجم. هل هناك أي منطق في هذه الشروط؟
ثم أن هناك إشكال في الأيام التي يجوز للمسلم أن يحتجم فيها والأيام التي أوصى بها الرسول، ( فقد نهى رسول الله عن الحجامة يوم الجمعة ويوم السبت ويوم الأحد ويوم الأربعاء، رواه ابن ماجه والحاكم من حديث ابن عمر، وروى أبو داود عن أبي بكرة أنه كان ينهي عن الحجامة يوم الثلاثاء) (الحاوي للفتاوي لجلال الدين السيوطي، ج1، ص 324). فإذاً الحجامة مذمومة يوم الجمعة والسبت والأحد والثلاثاء والأربعاء. فليس هناك غير الاثنين والخميس للحجامة. غير أن هناك حديثاً يقول "من احتجم يوم الخميس فمرض فيه مات فيه" (الجامع الصغير، حديث 8329). فلا يبقى من أيام الاسبوع للحجام ليكسب رزقه غير يوم الاثنين فقط. ولزيادة الطين بله، فهناك حديث آخر يوصي بالاحتجام يوم الثلاثاء بعد أن كان قد نهى عنها "من احتجم يوم الثلاثاء لسبع عشرة من الشهر كان دواءً لداء سنة" (الجامع الصغير، حرف الميم، حديث 8327).
وكذلك يؤكد السيوطي على الحجامة في أيام معلومة من الشهر،فيقول إن النبي قال (من احتجم لسبع عشرة من الشهر وتسع عشرة وإحدى وعشرين كان له شفاء من كل داء) (الجامع الصغير لجلال الدين السيوطي، حرف الميم، حديث 8326). فلا يمكن أن تصادف هذه الأيام الثلاثة يوم الخميس أو الاثنين من كل شهر. فالذي يريد الشفاء يحتجم في أي يوم من الاسبوع يصادف يوم 17، 19، 21 من أي شهر. فهذا تناقض واضح في الأحاديث
الكي
قد مررنا بالحديث الذي يقول (الشفاء في ثلاث: شُرْبَةِ عسلٍ، وشَرْطةِ مِحْجَمٍ، وكَيَّةِ نارٍ). فالكي بالنار علاج نبوي معروف. وزاد بعضهم في الحديث "وأنهى أمتي عن الكي" (الجامع الصفير، حديث 2752). ويقول السيوطي كذلك، قال النبي: أنهاكم عن الكي وأكره الحمم" والحمم هو الماء الشديد الحرارة. (الجامع الصغير، حرف الألف، حديث 4941). وعن عمران بن حُصين قال: نهى النبي (ص) عن الكي فاكتوينا فما أفلحن ولا أنجحن. (نهذيب سنن أبي داود، لابن القيم، باب في الكي، حديث 3860). فإذاً الكي، رغم فائدته المزعومة، منهي عنه في السنة.
ولكن عندما أصاب الصحابي سعد بن معاذ الأنصاري سهم في غزوة بني قريظة، كواه النبي شخصياً (لما رُمِى سعدُ بن معاذٍ فى أكْحَلِهِ حسَمَهُ النبىُّ صلى الله عليه وسلم، ثم ورِمَت، فحسَمهُ الثانية. و((الحَسْمُ)) هو: الكَىُّ. (الطب النبوي لابن القيم، ص 49). ويؤكد الطبري كذلك (عن الزهري عن أنس أن النبي كوى أسعد بن زرارة من الشوكة) (تاريخ الطبري، ج2، ص 9). وأسعد بن زرارة كان نقيب بني النجار.
البول في اتجاه القبلة
لا يختلف الفقهاء أن النبي نهى عن استقبال أو استدبار القبلة عند البول أو البراز، (روى أنه عليه السلام نهى عن استقبال القبلة، قال ابن القيم في "الهدى" ص 18 - ج 2: هذا الحديث عزاه الترمذي بعد تحسينه، وقال الترمذي في "كتاب العلل": سألت محمداً "يعني البخاري" عن هذا الحديث، فقال: هذا حديث صحيح، رواه غير واحد عن ابن إسحاق). وفي حديث معقل بن أبي معقل الأسدي: نهى رسول الله (ص) أن يستقبل القبلتين ببول أو غائط. رواه أحمد بن حنبل وأبو داود. (المجموع للإمام النووي، باب الاستطابة والاستنجاء والاستجمار).
ولكن محمد بن يحيي يقول عن عبد الله بن موسى، عن عيسى الحناط عن نافع عن ابن عمر قال: رأيت رسول الله (ص) في كنيفه مستقبلاً القبلة. قال عيسى: فقلت ذلك للشعبي فقال: صدق ابن عمر. (سنن ابن ماجة، ج1، كتاب الطهارة، حديث رقم 323). وعن حبان قال: لقد رقيت على ظهر بيتي فرأيت رسول الله (ص) قاعداً على لبنتين مستدبراً الكعبة، مستقبلاً بيت المقدس. (صحيح مسلم بشرح النووي، ج3، كتاب الطهارة، باب الاستطابة). وقد حاول بعض الفقهاء، خاصة مالك بن أنس، الالتفاف حول هذا التعارض بقوله إن استقبال القبلة يُمنع في الخلاء ويباح في البيوت، غير أن أبا أيوب الأنصاري، ومجاهد، وإبراهيم النخعي، وسفيان الثوري، وأبا ثور وأحمد بن حنبل يقولون: لا يجوز ذلك لا في الصحراء ولا في البنيان (أحكام النساء لابن الجوزي، ص 110). وعروة بن الزبير يقول يجوز استقبال القبلة في الخلاء وفي البنيان.
وقد نهى النبي عن البول قائماً كما يقول عمر بن الخطاب (وَحَديِثُ عُمَرَ إِنّما رُوِيَ مِنْ حَدِيثِ عَبْدِ الْكَرِيمِ بْنِ أَبِي المُخَارِقِ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنْ عُمَرَ قال: "رآنِي النّبِيّ صلى الله عليه وسلم (وَأَنا أَبولُ) قَائِماً، فَقَالَ: يَا عُمَرُ، لاَ تَبُلْ قَائِماً. فَمَا بُلْتُ قَائِماً بَعْدُ). وأكدت عائشة على ذلك بقولها (مَنْ حَدّثَكمُ أَنّ النّبِيّ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَبُولُ قَائماً فَلاَ تُصَدّقُوهُ. مَا كَانَ يَبُولُ إلاّ قاَعِداً) (تحفة الأحوذي للمباكفوري، باب النهي عن البول قائماً). ولكن حذيفة بن اليمان يخبرنا أن النبي بال قائماً. اتفق على صحته) يعني اتفق عليه البخاري ومسلم.
دفن ما يُقطع من جسم الإنسان
قال مالك بن سليمان عن الهروي، قال حدثنا داود بن عبد الرحمن عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة، قالت: كان رسول الله (ص) يأمر بدفن سبعة أشياء من الإنسان: الشعر، والظفر، والحيضة، والسن، والقلفة، والمشيمة. (الجامع لأحكام القرآن للقرطبي، سورة البقرة، الآية 124).
ولكن البخاري يخبرنا أن النبي كان يوزع شعر رأسه على أصحابه الذين كانوا يقتتلون عليه وعلى ماء وضوئه (قال البخاري في صحيحه: وزعموا أن الذي حَلَقَ لِلنبي صلى الله عليه وسلم، معمر بن عبد اللَّه بن نضلة بن عوف... ، فقال للحلاق: ((خُذْ، وأَشَارَ إلى جَانِبِه الأَيْمَنِ، فَلما فَرَغَ مِنْه، قَسَمَ شَعْرَهُ بَيْنَ مَنْ يَلِيه، ثُمَّ أَشَارَ إلَى الحَلاَّق، فَحَلَقَ جَانِبهُ الأيْسَر، ثُّمَّ قالَ: هاهنا أبو طلحة؟ فدفعه إليه))، هكذا وقع في صحيح مسلم) (زاد المعاد لابن القيم، ج2، ص 156). فالنبي لم يدفن شعر رأسه بل قسّمه على أصحابه ليتبركوا به.
العدوى
روي عن النبي أنه قال (لا عدوى ولا طيرة) أي أن العدوى لا تنتقل من إنسان إلى آخر ولا من حيوان إلى حيوان آخر. فقال له الأعراب: إنّ النقبة – بداية الجرب _ تقع بمشفر البعير فيجرب لذلك كل الإبل في المراح. فلا بد أن تكون عدوى. فقال لهم النبي: فما أعدى الأول! ثم قال بعد ذلك (لا يورد ذو عاهة على مصح) أي لا يورد الجمل المريض على الأصحاء، أي أنه اعترف بالعدوى. (الطب النبوي لابن القيم، ص 121).
ثم لما جاء وفد ثقيف لمبايعة النبي، كَانَ فِيهم رَجُلٌ مَجْذُومٌ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ النَّبيُّ: "إِنَّا قَدْ بَايَعْنَاكَ فَارْجِعْ". وهذا يدل على خوف النبي من العدوى. ثم أضاف البخاري، تأكيداً للخوف من العدوى أن النبي قال "فر من المجذوم فرارك من الأسد". وقال القاضي ( قد اختلفت الآثار عن النَّبيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في قصَّة المجذوم، فثبت عنه الحديثان المذكوران، وعن جابر: "أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَكَلَ مَعَ المَجْذُوْمِ، وَقَاَلَ لَهُ: "كُلْ، ثِقَةً بِاللهِ وَتَوَكُّلاً عَلَيْهِ") (صحيح مسلم بشرح النووي، ج4، كتاب السلام، باب اجتناب المجذوم). فهل نأكل مع المجذوم أم نفر منه فرارنا من الأسد؟
وهناك عدة أحاديث متناقضة عن منع النبي الناس من الشرب قائماً ثم شرب قائماً، ومنع الناس من التنفس في الإناء إذا شربوا، وكان يتنفس ثلاث مرات في الإناء. ونستطيع أن نقول إن كل حديث عن النبي له حديث مضاد له. وما ينطبق على أحاديث وأفعال النبي في هذه الأمثلة ينطبق على جميع الأحاديث الأخرى التي تتناول التشريع، مثل، "من بدل دينه فاقتلوه" أو "الولد للفراش وللعاهر الحجر". فإن لم نجد حديثاً معارضاً لها نجد آية من القرآن تقول بالعكس تماماً.
ومأساة المسلمين تكمن في الوعاظ الذين يخرجون عليهم بفتاوى وأحاديث تؤيد ما يقوم به الحاكم مهما كان ذلك العمل، فمثلاً عندما أنشأ وزير الداخلية السعودي مسابقة وجوائز لحفظ الحديث النبوي، خطب مفتي السعودية الشيخ آل الشيخ فقال (ان حفظ السنة النبوية من اسباب تعلمها والعمل بها وايضا سبب للتعرض لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم عن حفظ سنته بأن ينضره الله عز وجل حيث قال صلى الله عليه وسلم «نضّر الله امرءا سمع مقالتي فوعاها وحفظها وبلغها فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه»، مبينا ان حفظ السنة من أعظم المطالب وأسنى المراتب لما في ذلك من إعانة على حفظ الدين، وصيانة الشريعة) (الشرق الأوسط، 14 مارس 2008). ولكن كل أهل السنة يعرفون حديث أبي سعيد الخدري الذي يقول (قال رسول الله (ص) لا تكتبوا عني شيئاً غير القرآن ومن كتب شيئاً فليمحه) (أخرجه مسلم). فكيف ينهي النبي عن كتابة الحديث ثم يوصي بحفظه؟ وليس بعيداً عن الأذهان فتوى مفتي الديار السورية حديثاً عندما قال إن حضور اجتماع القمة العربية في دمشق فرض عين على كل الرؤساء والملوك العرب، وإن من تخلف عنها فقد ارتكب إثماً. وقد اعتمد الشيخ السعدون على أحاديث إجماع الأمة الإسلامية، التي لا تجتمع على ضلال.
وقد حاول الفقهاء وأهل الحديث عدة طرق للخروج من هذا التناقض في الشريعة المحمدية، فنجد مثلاً ابن تيمية يقول (ترك القول والعمل بموجب أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ظنا أن القول بموجبها مستلزم للطعن فيما خالفها، هذا الترك يجر إلى الضلال واللحوق بأهل الكتابين) (ابن تيمية، رفع الملام عن الأئمة الأعلام/ ص 31). فابن تيمية يرى أن تعارض الأحاديث لا يبطل العمل بها. أما ابن رشد القرطبي فيقول في تعارض الأحاديث (فذهب العلماء في هذين الحديثين ثلاثة مذاهب: أحدها مذهب الترجيح. والثاني مذهب الجمع. والثالث مذهب الإسقاط عند التعارض والرجوع إلى البراءة الأصلية إذا لم يعلم الناسخ من المنسوخ، فمن ذهب مذهب الترجيح قال بحديث ثوبان – الذي يقول أفطر الحاجم والمحجوم، وذلك أن هذا موجب حكما، وحديث ابن عباس – الذي يقول إن النبي احتجم وهو صائم _ رافعه، والموجب مرجح عند كثير من العلماء على الرافع لأن الحكم إذا ثبت بطريق يوجب العمل لم يرتفع إلا بطريق يوجب العمل برفعه، وحديث ثوبان قد وجب العمل به، وحديث ابن عباس يحتمل أن يكون ناسخا ويحتمل أن يكون منسوخا، وذلك شك والشك لا يوجب عملا ولا يرفع العلم الموجب للعمل) (ابن رشد، بداية المجتهد ونهائة المقتصد، ج1، ص 211). فكان لا بد لهم أن يدخلوا الناسخ والمنسوخ على الأحاديث كما أدخلوه على القرآن.
فهل يُعقل أن تبنى قوانين دولة على هذه السُنة التي يعارض بعضها البعض ولا يتفق فقهاؤها على أي حديث؟ أضف إلى ذلك تعارض آيات القرآن مع بعضها البعض ومع عدد كبير من الأحاديث؟ لا شك أن الدولة المدنية التي يصوغ الناس قوانينها بأنفسهم هي الحل والمخرج من هذا الارتباك والتعارض. وقد خطا جماعة "أهل القرآن" (إن كان للقرآن أهل) خطوة أولى في هذا الاتجاه الصحيح بأن جعلوا اعتمادهم على القرآن فقط وألغوا السنة القولية. والخطوة التالية يجب أن تكون وضع المصاحف في المساجد وجعل الدين علاقة فردية بين الشخص ومن يعبد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق